في ظلمات الليل وسُكونه, وفي إحدى ليالي الشتاء القارصة , وبين سراديب تلك الأحياء المُوحشة , أحياء رُسمت على جدرانه قلبٌ مطعون وآخر مجروح وثالث لا يكاد يرى لون الحائط مزيج من همومٌ مختلطة,في ذلك الحي الذي فُرشت أرضة بأكوام من القاذورات مجبراً أن تدوسها لتعبر الطريق قدماً..
مازالت تمشي وقطرات العرق تسابق دموعها , وآهاتها تسابق أنفاسها ,ودقات قلبها المتسارعه تفقدها صوابها, مازالت تمشي وخطواتها تكاد تخونها بين تلك السراديب الموحشة,وبين تلك العيون التي ترمقها بنظرات حادة تصلها كالسهام القاتلة ..لاشي يشغل تفكيرها سوي ألام المحيض التي أنهكتها وجعلتها تجر خُطاها تارة وتقف تارة..لم تصل بعد إلى تلك الخاربة المهجوره التي أصبحت وطن من لا وطن له ..هي مكان لولادة ألم جديد وهي مكان أعتاد على سماع بكاء طفل ظُلم قبل ان يتنفس هواء تلك الخرابة الملوثة ,اعتاد على صرخة تناقض صرخة بتنفس الحياة هي صرخة روح مظلومة ميلادها يحكي ألمها.., والشاهد على ذاك الميلاد ظلمة الليل الحالك وتلك الجدران التي تستعد لتستضيف روح جديدة.
هاهي وصلت لاتكاد تقف حتى تسقط ثانيةً , بدأت تصعد السلم وكأن كل درجة تُعلن عن العدد التنازلي لإقتراب مسرحية كُل ليلة من ليالي الألم..التي يمثلها الضحايا احياناً والجزارين أحيانا اخرى ..
في تلك الليلة كانت السماء قد أسودت وكأنها من هول ماسيحدث غضبت ولم تلبث حتى بدأت تصرخ برعد يكاد يصم المسامع و أنهمرت دموعها في قمة غضبها بهيئة مطر على أرض يصعب تطهيرها من حماقة البشر.
نظرت الى تلك السماء بين شهيق و زفير وقالت بصوت مرتجف .."" يارب"" وإالى الخرابة دخلت .. ظلام دامس وهدوء لا يسمع الا زخ المطر على النوافذ وصرير الأبواب ..ورعد أفزع قلبها مع برق يُنير لها تارة ويبتعد ..
وما أن لامست زواية من الزوايا حتى سقطت أرضاً و أعلنت مزيج من صرخات ألم المحيض, وصرخات مكتومة مذ زمن صرخة ألم لٍجرح عميق في قلبها المكلوم مع صرخات لمستقبل موحش والجهل عنوانة بالتأكيد.
صرخات مع كلمات تخرج من الصميم : " رباه أعلم مدى جُرمي ..رباة فخذ روحي مع روح سكنت فيني من هذة الدنيا اللعينة "
و وبين اللحظه والاخرى دوي صرخة ..ولحظات اخرى لاتمك سوى ان تعض على يداها الم وندم مع أنين طويل وآهات حارقة, شهقات و زفرات ودموع تسابق ذاك المطر وصرخة مع هزيم الرعد..تعلن عن صرخة أولى مختلفة في حياة جديدة ..بكاء الطفل سطر حروف تلك الليلة و ألجم أمه بلجام الحرقة والصمت ..استلقت وكأنها جسد بلا روح تهمس لنفسها : أأنا أموت أم أني في أحضان الموت أصبحت.. تستجمع قواها المتمزقه ثم تنهض ..نظرت إلية ثم أبتسمت ولم تلبث حتى ذبلت تلك الابتسامة وغاصت الشفتين بين ثنايها ..وأقفلت عيناها مع نفس عميق خرج من أعماقها, أمسكت بالحبل السري الذي ربطهما تسعة اشهر وقطعته لتقطع كل مشاعرها به ..نعم هذا هو حال كل من يلجأ لهذا المكان فهذة هي شروط دخولها..
فتحت الحقيبة واخرجت ما تلف به جسده المرتجف من برد تلك الليلة , إحتضنته إلى صدرها و وضعت شفتيها الباردتان على رأسه تبكي بصمت ودموعها تتساقط على تلك الروح وكأنها ترسل له أعتذاراها الذي لن يفهم ولن يقبل..دموع تخبرة بألم يسكن في الأعماق تجسد بجبروت الظلم والخيانة..عنفوان مشاعرها يكاد يحرقها بين حب تسرب الى قلبها وبين طريقة للتخلص منه.
أستقلت معه على تلك الأرض التي ملئت بغبار الايام..تلك الارض التي وطأتها ارواح وعاشت ذاك السناريو..كانت يداه الصغيرتان تتحرك بعشوائية ثم لا تلبث حتى تقف على جسدها وكأنه يقول لا تتركني..
نظرت إلية بحنان وحب خالط الدموع بعيناها التي لا تكاد ان تفتحها حتى تقفل ..فكل جزء منها يأن ولكنها لم تعد تشعر به كل ماتشعر به أجل قريب محتوم..طبعت قبلة على شفتاه واخرى على عيناه ثم نظرت الى السماء وقالت بصوت مودع
: " رباه لا أستحق العيش ولا أستحق حياة منحتني أياها ..رباه سامحني....""
وأقفلت عيناها و حضنت طفلها بكل قوتها وكأنها تود أن يعود داخل جسدها بعيد عن دنيا أحرقتها وذرتها رماد في وجه الريح.
أقفلت عيناها ولم تفتح مرة اخرى ..وتعلقت روح طفلها بروحها لتطيرالى السماء بعيداً عن دنيا قذرة لم تمنحهما السعادة.
أنتهى